الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
والناس في الشرع والقدر على أربعة أنواع فشر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه ولا يراه حجة لغيره يستند إليه في الذنوب والمعايب ولا يطمئن إليه في المصائب كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. وبإزاء هؤلاء خير الخلق الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعايب كما قال تعالى ) قال تعالى ) وقد ذكر الله تعالى عن آدم عليه السلام أنه لما فعل ما فعل قال ) والحديث الذي في الصحيحين في احتجاج آدم وموسى عليهما السلام لما قال له موسى " أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه وخط لك التوراة بيده فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق ) فآدم إنما حج موسى لأن موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لهم من المصيبة بسبب أكله من الشجرة لم يكن لومه لأجل حق الله في الذنب. فإن آدم قد تاب من الذنب كما قال تعالى ) وقد قال تعالى ) وهذا واجب فيما قدر من المصائب بغير فعل آدمي كالمصائب السماوية أو بفعل لا سبيل فيه إلى العقوبة كفعل آدم عليه السلام فإنه لا سبيل إلى لومه شرعاً لأجل التوبة ولا قدراً لأجل القضاء والقدر. وأما إذا ظلم رجل رجلاً فله أن يستوفي مظلمته على وجه العدل وإن عفا عنه كان أفضل له كما قال تعالى ) وأما الصنف الثالث فهم الذين لا ينظرون إلى القدر لا في المعايب ولا في المصائب التي هي من أفعال العباد بل يضيفون ذلك إلى العبد وإذا أساءوا استغفروا وهذا أحسن لكن إذا أصابتهم مصيبة بفعل العبد لم ينظروا إلى القدر الذي مضى بها عليهم ولا يقولون لمن قصر في حقهم دعوه فلو قضي شيء لكان لا سيما وقد تكون تلك المصيبة بسبب ذنوبهم فلا ينظرون إليها وقد قال تعالى ) ومن هذا قوله تعالى ) وقد يجيبهم الأولون بقراءة مكذوبة ) فكل من هاتين الطائفتين جاهلة بمعنى القرآن وبحقيقة المذهب ينصره. وأما القرآن فالمراد )منه( هنا بالحسنات والسيئات النعم والمصائب ليس المراد الطاعات والمعاصي وهذا كقوله تعالى ) ومنه قوله تعالى ) وهذا بخلاف قوله ) وإذا قال ) وسياق الآيتين يبين ذلك فإنه ذكر هذا في سياق الحض على الجهاد وذم المتخلفين عنه فقال تعالى ) فأمر سبحانه بالجهاد وذم المثبطين وذكر ما يصيب المؤمن تارة من المصيبة فيه وتارة من فضل الله فيه كما أصابهم يوم أحد فقال ) ) وقد ذكر نظير ذلك في قصة موسى وفرعون قال تعالى ) ومن عليك بالإيمان وزينه في قلبك وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان. وفي آخر الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " وفي الصحيح " سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقناً بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة ". ثم قال تعالى ) فإن القدر ليس حجة لأحد على الله ولا على خلقه ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يعاقب ظالم ولم يقتل مشرك ولم يقم حد ولم يكف أحد عن ظلم أحد وهذا من الفساد في الدين المعلوم ضرورة فساده بصريح المعقول المطابق لما جاء به الرسول. فالقدر يؤمن به ولا يحتج به فمن لم يؤمن بالقدر ضاع المجوس ومن احتج به ضارع المشركين ومن أقر بالأمر والقدر وطعن في عدل الله وحكمته كان شبيهاً بإبليس فإن الله ذكر عنه أنه طعن في حكمته وعارضه برأيه وهواه وأنه قال ) وقد ذكر طائفة من أهل الكتاب وبعض المصنفين في المقالات كالشهرستاني أنه ناظر الملائكة في ذلك معارضاً لله تعالى في خلقه وأمره لكن هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه ولو وجدناها في كتب أهل الكتاب لم يجز أن نصدقها لمجرد ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبونه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقونه " ويشبه - والله أعلم - أن تكون تلك المناظرة من وضع بعض المكذبين بالقدر إما من أهل الكتاب وإما من المسلمين. والشهرستاني نقلها من كتب المقالات والمصنفون في المقالات ينقلون كثيراً من المقالات من كتب المعتزلة كما نقل الأشعري وغيره ما نقله في المقالات من كتب المعتزلة فإنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفاً في هذا الباب ولهذا توجد المقالات منقولة بعباراتهم فوضعوا هذه المناظرة على لسان إبليس كما رأينا كثيراً منهم يضع كتاباً أو قصيدة على لسان بعض اليهود أو غيرهم ومقصودهم بذلك الرد على المثبتين للقدر يقولون أن حجة الله على خلقه لا تتم إلا بالتكذيب بالقدر كما وضعوا في مثالب ابن كلاب أنه كان نصرانياً لأنه أثبت الصفات وعندهم من أثبت الصفات فقد أشبه النصارى وتتلقى أمثال هذه الحكايات بالقبول من المنتسبين إلى السنة ممن لم يعرف حقيقة أمرها. والمقصود هنا أن الآية الكريمة حجة على هؤلاء وهؤلاء: حجة على من يحتج بالقدر فإن الله تعالى أخبر أنه عذبهم بذنوبهم فلو كانت حجتهم مقبولة لم يعذبهم وحجة على من كذب بالقدر فإن سبحانه أخبر أن الحسنة من الله وأن السيئة من نفس العبد والقدرية متفقون على أن العبد هو المحدث للمعصية كما هو المحدث للطاعة والله عندهم ما أحدث هذا ولا هذا بل أمر بهذا ونهى عن هذا وليس عندهم لله نعمة أنعمها على عباده المؤمنين في الدين إلا وقد أنعم بمثلها على الكفار فعندهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبا لهب مستويان في نعمة الله الدينية إذ كل منهما أرسل إليه الرسول وأجبر على الفعل وأزبحت علته لكن هذا فعل الإيمان بنفسه من غير أن يخصه بنعمة آمن بها وهذا فعل الكفر بنفسه من غير أن يفضل الله عليه ذاك المؤمن ولا خصه بنعمة آمن لأجلها وعندهم أن الله حبب الإيمان إلى الكفار كأبي لهب وأمثاله كما حببه إلى المؤمنين كعلي رضي الله عنه وأمثاله وزينه في قلوب الطائفتين وكره الكفر والفسوق والعصيان إلى الطائفتين سواء لكن هؤلاء كرهوا ما كرهه الله إليهم بغير نعمة خصهم بها وهؤلاء لم يكرهوا ما كرهه الله إليهم. ومن توهم منهم أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله والمعصية من العبد فهو جاهل بمذهبهم فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقوله فإن أصل قولهم أن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية كلتاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه بإرادة خلقاه فيه تختص بأحدهما ولا قوة جعلها فيه تختص بأحدهما فإذا احتجوا بهذه الآية على مذهبهم كانوا جاهلين بمذهبهم وكانت الآية حجة عليهم لا لهم لأنه تعالى قال ) وأيضاً فإن نفس فعل العبد وإن قال أهل الإثبات أن الله خلقه وهو مخلوق له ومفعول له فإنهم لا ينكرون أن العبد هو المتحرك بالأفعال وبه قامت ومنه نشأت وإن كان الله خلقها. وأيضاً فإن قوله بعد هذا ) ومما ينبغي أن يعلم أن مذهب سلف الأمة مع قولهم: الله خالق كل شيء وربيه ومليكه وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه على كل شيء قدير وأنه هو الذي خلق العبد هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً ونحو ذلك - أن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة قال تعالى ) وهذا الموضع اضطرب فيه الخائضون في القدر فقالت المعتزلة ونحوهم من النفاة: الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة والله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين فلا يكون فعلاً له. وقال من رد عليهم من المائلين إلى الجبر بل هي فعله وليست أفعالاً للعباد بل هي كسب للعبد: وقالوا: إن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاتها وإن الله أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها فيكون الفعل خلقاً من الله وإبداعاً وإحداثاً وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته وقالوا: أن العبد ليس محدثاً لأفعاله ولا موجداً لها ومع هذا فقد يقولون أنا لا نقول بالجبر المحض بل نثبت للعبد قدرة حادثة والجبري المحض الذي لا يثبت للعبد قدرة. وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه بين الخلق فقالوا: الكسب عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة والخلق هو المقدور بالقادرة القديمة وقالوا: أيضاً الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه. فقال لهم الناس: هذا لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب وبين كونه فعل وأوجد وصنع وعمل ونحو ذلك فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة وهو قائم في محل القدرة الحادثة. وأيضاً فهذا فرق لا حقيقة له فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى تأثير القدرة فيه: وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه والثاني أن قدرة العبد لا يكون مقدورها خارجاً عن محلها. وفي ذلك نزاع طويل ليس هذا موضعه. وأيضاً فإذا فسر التأثير بمجرد الاقتران فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل. وأيضاً قال لهم المنازعون: من المستقر في فطر الناس أن من فعل العدل فهو عادل ومن فعل الظلم فهو ظالم ومن فعل الكذب فهو كاذب فإذا لم يكن العبد فاعلاً لكذبه وظلمه وعدله بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم قالوا وهذا كما قلتم أنتم وسائر الصفاتية: من المستقر في فطر الناس أن من قام به العلم فهو عالم ومن قامت به القدرة فهو قادر ومن قامت به الحركة فهو متحرك ومن قام به التكلم فهو متكلم ومن قامت به الإرادة فهو مريد وقلتم إذا كان الكلام مخلوقاً كان كلاماً للمحل الذي خلقه فيه كسائر الصفات فهذه القاعدة المطردة فيمن قامت به الصفات نظيرها أيضاً من فعل الأفعال. وقالوا أيضاً: القرآن مملوء بذكر إضافة هذه الأفعال إلى العباد كقوله تعالى ) وقالوا أيضاً أن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله ويكون حسنة له فلو لم يكن إلا فعل غيره لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها. وفي المسئلة كلام ليس هذا موضع بسطه لكن ننبه على نكت نافعة في هذا الموضع المشكل فنقول. قول القائل هذا فعل هذا وفعل هذا لفظ فيه إجمال فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل وتارة يراد به مسمى المصدر. فيقول فعلت هذا أفعله فعلاً وعملت هذا أعمله عملاً فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك فالعمل هنا المعمول قال تعالى ) ومن هذا الباب قوله تعالى ) ومنه حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله خالق كل صانع وصنعته " لكن قد يستدل بالآية على أن الله خلق أفعال العباد من وجه آخر فيقال: إذا كان خالقاً لما يعملونه من المنحوتات لزم أن يكون هو الخالق للتأليف الذي أحدثوه فيها فإنها إنما صارت أوثاناً بذلك التأليف وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم وإذا كان خالقاً للتأليف كان خالقاً لأفعالهم. والمقصود أن لفظ الفعل والعمل والصنع أنواع وذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة تقع على نفس مسمى المصدر وعلى المفعول وكذلك لفظ التلاوة والقراءة والكلام والقول يقع على نفس مسمى المصدر وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام فيراد بالتلاوة والقراءة المقروء والمتلو كما يراد بها مسمى المصدر. والمقصود هنا أن القائل إذا قال هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين وبصريح العقل ولكن من قال هي فعل الله أراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات. ثم من هؤلاء من قال أنه ليس لله فعل يقوم به فلا فرق عنده بين فعله ومفعوله وخلقه ومخلوقه. وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا فيقولون هذه مخلوقة لله مفعولة ليست هي نفس فعله وأما العبد فهي فعله القائم به وهي أيضاً مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول فمن لم يفرق في حق الرب تعالى بين الفعل والمفعول قال إنها فعل الله تعالى وليس لمسمى فعل الله عنده معنيان وحينئذ فلا تكون فعلاً للعبد ولا مفعولة له بطريق الأولى وبعض هؤلاء قال هي فعل للرب وللعبد فأثبت مفعولاً بين فاعلين. وأكثر المعتزلة يوافقون هؤلاء على أن فعل الرب تعالى لا يكون إلا بمعنى مفعوله مع أنهم يفرقون وأما من قال خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته قال أن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات ومفعولة للرب كسائر المفعولات ولم يقل أنها نفس فعل الرب وخلقه بل قال أنها نفس فعل العبد وعلى هذا تزول الشبهة فإنه يقال الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له كما يفعلها العبد وتقوم به ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره كما أن سبحانه لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به وإذا خلق رائحة منتنة أو طعماً مراً أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح لم يكن هو متصفاً بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة. ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها وسبباً لذمه وعقابه وجالبة لألمه وعذابه. وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره. ثم على قول الجمهور الذين يقولون له حكمة فيما خلقه في العالم مما هو مستقبح وضار ومؤذ يقولون: له فيما خلقه من هذه الأفعال القبيحة الضارة لفاعلها حكمة عظيمة كما له حكمة عظيمة فيما خلقه من الأمراض والغموم. ومن يقول لا تعلل أفعاله لا يعلل لا هذا ولا هذا. يوضح ذلك أن الله تعالى إذا خلق في الإنسان عمى ومرضاً وجوعاً وعطشاً ووصباً ونصباً ونحو ذلك كان العبد هو المريض الجائع العطشان المتألم فضرر هذه المخلوقات وما فيها من الأذى والكراهة عاد إليه ولا يعود إلى الله تعالى شيء من ذلك فكذلك ما خلق فيه من كذب وظلم وكفر ونحو ذلك هي أمور ضارة مكروهة مؤذية. وهذا معنى كونها سيئات وقبائح أي أنها تسوء صاحبها وتضره وقد تسود أيضاً غيره وتضره كما أن مرضه ونتن ريحه ونحو ذلك قد يسوء غيره ويضره. يبين ذلك أن القدرية سلموا أن الله قد يخلق في العبد كفراً وفسوقاً على سبيل الجزاء كما في قوله تعالى ) ثم إنه من المعلوم أن هذه المخلوقات تكون فعلاً للعبد وكسباً له يجزى عليها ويستحق الذم عليها والعقاب وهي مخلوقة لله تعالى فالقول عند أهل الإثبات فيما يخلقه من أعمال العباد ابتداء كالقول فيما يخلقه جزاء من هذا الوجه وإن افترقا من وجه آخر وهم لا يمكنهم أن يفرقوا بينهما بفرق يعود إلى كون هذا فعلاً لله دون هذا وهذا فعلاً للعبد دون هذا لكن يقولون هذا يحسن من الله تعالى لكونه جزاء للعبد وذلك لا يحسن منه لكونه ابتدأ العبد بما يضره وهم يقولون لا يحسن منه أن يضر الحيوان إلا بجرم سابق أو عوض لاحق. وأما أهل الإثبات للقدر فمن لم يعلل منهم لا يفرق بين مخلوق ومخلوق. وأما القائلون بالحكمة وهم الجمهور فيقولون لله تعالى فيما يخلقه من الحيوان حكم عظيمة كما له حكم في غير هذا ونحن لا نحصر حكمته في الثواب والعوض فإن هذا قياس لله تعالى على الواحد من الناس وتمثيل لحكمة الله وعدله بحكمة الواحد من الناس وعدله. والمعتزلة مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات ومن أصولهم الفاسدة أنهم يصفون الله بما يخلقه في العالم إذ ليس عندهم صفة لله قائمة به ولا فعل قائم به يسمونه به ويصفونه بما يخلقه في العالم: مثل قولهم هو متكلم بكلام بخلقه في غيره ومريد بإرادة يحدثها لا في محل وقولهم أن رضاه وغضبه وحبه وبغضه هو نفس المخلوق الذي يخلقه من الثواب والعقاب وقولهم أنه لو كان خالقاً لظلم العبد وكذبه لكان هو الظالم الكاذب وأمثال ذلك من الأقوال التي إذا تدبرها العاقل علم فسادها بالضرورة. ولهذا اشتد تكبر السلف والأئمة عليهم لا سيما لما أظهروا القول بأن القرآن مخلوق وعلم السلف أن هذا في الحقيقة هو إنكار لكلام الله تعالى وإنه لو كان كلامه هو ما يخلقه للزم أن يكون كل كلام مخلوق كلاماً له فيكون إنطاقه للجلود يوم القيامة وإنطاقه للجبال والحصى بالتسبيح وشهادة الأيدي والأرجل ونحو ذلك كلاماً له وإذا كان خالقاً لكل شيء كان كل كلام موجود كلامه وهذا قول الخلولية والجهمية كصاحب الفصوص وأمثاله وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وقد علم بصريح المعقول أن الله تعالى إذا خلق صفة في محل كانت صفة لذلك المحل فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها وإذا خلق لوناً أو ريحاً في جسم كان هو المتلون المتروح بذلك وإذا خلق علماً أو قدرة أو حياة في محل كان ذلك المحل هو العالم القادر الحي فكذلك إذا خلق إرادة وحباً وبغضاً في محل كان هو المريد المحب المبغض فإذا خلق فعلاً لعبد كان العبد هو الفاعل فإذا خلق له كذباً وظلماً وكفراً كان العبد هو الكاذب الظالم الكافر وإن خلق له صلاة وصوماً وحجاً كان العبد هو المصلي الصائم الحاج. والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقاته بل صفاته قائمة بذاته وهذا مطرد على أصول السلف وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم ويقولون أن خلق الله للسموات والأرض ليس هو نفس السماوات والأرض بل الخلق غير المخلوق لا سيما مذهب السلف والأئمة وأهل السنة الذين وافقوهم على إثبات صفات الله وأفعاله. فإن المعتزلة ومن وافقهم من الجهمية القدرية نقضوا هذا الأصل على من لم يقل أن الخلق غير المخلوق كالأشعري ومن وافقه فقالوا: إذا قلتم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره كما ذكرتم في الحركة والعلم والقدرة وسائر الأعراض - انتقض ذلك عليكم بالعدل والإحسان وغيرهما من أفعال الله تعالى فإنه يسمى عادلاً بعدل خلقه في غيره محسناً بإحسان خلقه في غيره فكذا يسمى متكلماً بكلام خلقه في غيره. والجمهور من أهل السنة وغيرهم يجيبون بالتزام هذا الأصل ويقولون إنما كان عادلاً بالعدل الذي قام بنفسه ومحسناً بالإحسان الذي قام بنفسه. وأما المخلوق الذي حصل للعبد فهو أثر ذلك كما أنه رحمن رحيم بالرحمة التي هي صفته وأما ما يخلقه من الحرمة فهو أثر تلك الحرمة واسم الصفة يقع تارة على الصفة التي هي المصدر ويقع تارة على متعلقها الذي هو مسمى المفعول كلفظ الخلق يقع تارة على الفعل وعلى المخلوق أخرى والرحمة تقع على هذا وهذا وكذلك الأمر يقع على أمره الذي هو مصدر أمر يأمر أمراً ويقع على المفعول تارة كقوله تعالى ) وقد استدل أحمد وغيره من أئمة السنة في جملة ما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله عليه السلام " أعوذ بكلمات الله التامات " ونحو ذلك وقالوا الاستعاذة لا تحصل بالمخلوق ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك ". ومن تدبر هذا الباب وجد أهل البدع والضلال لا يستطيلون على فريق المنتسبين إلى السنة والهدى إلا بما دخلوا فيه من نوع بدعة أخرى وضلال آخر لا سميا إذا وافقوهم على ذلك فيحتجون عليهم بما وافقوهم عليه من ذلك ويطلبون لوازمه حتى يخرجوهم من الدين إن استطاعوا خروج الشعرة من العجين كما فعلت القرامطة الباطنية والفلاسفة وأمثالهم بفريق فريق من طوائف المسلمين والمعتزلة استطالوا على الأشعرية ونحوهم من المثبتين للصفات والقدر بما وافقوهم عليه من نفي الأفعال القائمة بالله تعالى فنقضوا بذلك أصلهم الذي استدلوا به عليهم من أن كلام الله غير مخلوق وأن الكلام وغيره من الأمور إذا خلق بمحل عاد حكمه على ذلك المحل. واستطالوا عليهم بذلك في مسئلة القدر واضطروهم إلى أن جعلوا نفس ما يفعله العبد من القبيح فعلاً لله رب العالمين دون العبد ثم أثبتوا كسباً لا حقيقة له فإنه لا يعقل من حيث تعلق القدرة بالمقدور فرق بين الكسب والفعل ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال هذا ويقولون: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري اضطروهم إلى أن فسروا تأثير القدرة في المقدور بمجرد الاقتران العادي والاقتران العادي يقع بين كل ملزوم ولازمه ويقع بين المقدور والقدرة فليس جعل هذا مؤثراً في هذا الباب بأولى من العكس. ويقع بين المعلول وعلته المنفصلة عنه مع أن قدرة العباد عنده لا يتجاوز بمحلها. ولهذا فر القاضي أبو بكر إلى قول وأبو إسحاق الإسفرائيني إلى قول وأبو المعالي الجويني إلى قول لما رأوا في هذا القول من التناقض. والكلام على هذا مبسوط في موضعه والمقصود هنا التنبيه. ومن النكت في هذا الباب أن لفظ التأثير ولفظ الجبر ولفظ الرزق ونحو ذلك ألفاظ مجملة فإذا قال القائل هل قدرة العبد مؤثرة في مقدورها أم لا قيل له أولاً لفظ القدرة يتناول نوعين: )أحدهما( القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي )والثاني( القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور لا يتأخر عنها. فالأولى هي المذكورة في قوله تعالى ) وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " وكذا قوله تعالى ) وهذه الاستطاعة المذكورة في كتب الفقه ولسان العموم. والناس متنازعون في مسمى الاستطاعة والقدرة فمنهم من لا يثبت استطاعة إلا ما قارن الفعل. وتجد كثيراً من الفقهاء يتناقضون فإذا خاضوا مع من يقول من المتكلمين المثبتين للقدر أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل وافقوهم على ذلك وإذا خاضوا في الفقه أثبتوا الاستطاعة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي. وعلى هذا تتفرع مسألة تكليف ما لا يطاق فإن الطاقة هي الاستطاعة وهي لفظ مجمل فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحداً شيئاً بدونها فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين. وكذا تنازعهم في العبد هل هو قادر على خلاف المعلوم فإذا أريد بالقدرة القدرة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي كالاستطاعة المذكورة في قوله تعالى ) وإن أريد بالقدرة القدرة القدرية التي لا تكون إلا مقارنة للمفعول فمن علم أنه لا يفعل الفعل لم تكن هذه القدرة ثابتة له. ومن هذا الباب تنازع الناس في الأمر والإرادة هل يأمر بما لا يريد أو لا يأمر إلا بما يريد. فإن الإرادة لفظ فيه إجمال يراد بالإرادة الإرادة الكونية الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكقوله تعالى ) فإنه إذا لم يفعل المحلوق عليه لا يحنث مع أن الله أمره به لقوله: إن شاء الله فعلم أن الله لم يشأ مع أمره به. وأما الإرادة الدينية فهي بمعنى المحبة والرضى وهي ملازمة للأمر كقوله تعالى ) وكذلك لفظ الجبر فيه إجمال يراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون رضاه. كما يقال: إن الأب يجبر المرأة على النكاح والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبراً بهذا التفسير فإنه يخلق للعبد الرضاء والاختيار بما يفعله وليس ذلك جبراً بهذا الاعتقاد ويراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات كقول محمد بن كعب القرظي: الجبار الذي جبر العباد على ما أراد كما في الدعاء المأثور عن علي رضي الله عنه " جبار القلوب على فطراتها: شقيها وسعيدها " والجبر ثابت بهذا لتفسير. فلما كان لفظ الجبر مجملاً نهى الأئمة عن إطلاق إثباته أو نفيه. وكذلك لفظ الرزق فيه إجمال فقد يراد بلفظ الرزق ما أباحه أو ملكه فلا يدخل الحرام في مسمى هذا الرزق كما في قوله تعالى ) وقد يراد بالرزق ما ينتفع به الحيوان وإن لم يكن هناك إباحة ولا تمليك فيدخل فيه الحرام كما في قوله تعالى ) وكذا لفظ التأثير فيه إجمال فإن القدرة مع المقدور كالسبب مع المسبب والعلة مع المعلول والشرط مع المشروط فإن أريد بالقدرة القدرة الشرعية المصحح للفعل المتقدمة عليه فتلك شرط للفعل وسبب من أسبابه وعلة ناقصة له وإن أريد بالقدرة القدرة المقارنة للفعل المستلزمة له فتلك علة للفعل وسبب تام ومعلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحده علة تامة وسبب تام للحوادث بمعنى أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصة فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق والشمس في الإشراق والطعام والشراب في الإشباع والإرواء فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحده بل لا بد أن ينضم إليه سبب آخر ومع هذا فلهما موانع تمنعهما عن الأثر فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع. وليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء. وهذا يبين لك خطأ المتفلسفة الذين قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعية كالمسخن والمبرد ونحو ذلك فإن هذا غلط فإن التسخين لا يكون إلا بشيئين )أحدهما( فاعل كالنار )والثاني( قابل كالجسم القابل للسخونة والاحتراق وإلا فالنار إذا وقعت على السمندل والياقوت لم تحرقه وكذلك الشمس فإن شعاعها مشروط بالجسم القابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع وله موانع من السحاب والسقوف وغير ذلك فهذا الواحد الذي قدروه في أنفسهم لا وجود له في الخارج وقد بسط هذا في موضع آخر. فإن الواحد العقلي الذي يثبته الفلاسفة كالوجود المجرد عن الصفات وكالعقول المجردة وكالكليات التي يدعون تركب الأنواع منها وكالمادة والصورة العقليين وأمثال ذلك لا وجود لها في الخارج بل إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان وهي أشد بعداً عن الوجود من الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من أهل الكلام فإن هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج وكذلك الواحد كما قد بسط في موضعه. والمقصود هنا أن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو بسبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع - وكل ذلك بخلق الله تعالى - فهذا حق وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار. وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثراً بل الله وحده خالق كل شيء فلا شريك له ولا ند له فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ) فإذا عرف ما في لفظ التأثير من الإجمال والاشتراك ارتفعت الشبهة وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين. فمن قال: إن المؤمن والكافر سواء فيما أنعم الله عليهما من الأسباب المقتضية لللإيمان وإن المؤمن لم يخصه الله بقدرة ولا إرادة آمن بها وإن العبد إذ فعل لم تحدث له معونة من الله وإرادة لم تكن قبل الفعل - فقوله معلوم الفساد وقيل لهؤلاء: فعل العبد من جملة الحوادث والممكنات فكل ما به يعلم أن الله تعالى أحدث غيره يعلم به أن الله أحدثه فكون العبد فاعلاً بعد أن لم يكن أمر ممكن حادث فإن أمكن صدور هذا الممكن الحادث بدون محدث واجب يحدثه ويرجح وجوده على عدمه أمكن ذلك في غيره فانتقض دليل إثبات الصانع ولا ريب أن كثيراً من متكلمة الإثبات القائلين بالقدر سلموا للمعتزلة أن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وقالوا في مسئلة إحداث العالم أن القادر المختار أو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع الحوادث والأزمنة نسبة واحدة رجحت أنواعاً من الممكنات في الوقت الذي رجحته بلا حدوث سبب اقتضى الرجحان وادعوا أن القادر المختار يمكنه الترجيح بلا مرجح أو الإرادة القديمة ترجح بلا مرجح آخر فاعترض عليهم هناك من نازعهم من أهل الملل والفلاسفة القائلين بأن الله لم يحدث الحوادث بأفعال تقوم بنفسه وإن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام. والقائلين بقدم العالم قالوا: هذا الذي قلتموه معلوم الفساد بالضرورة وتجويز هذا يقتضي جواز حدوث الحوادث بلا سبب والترجيح بلا مرجح وذلك يسد باب إثبات الصانع. ثم أن هؤلاء المثبتين للقدر احتجوا بهذه الحجة على نفاة القدر وقالوا: حدوث فعل العبد بعد أن لم يكن لا بد له من محدث مرجح تام غير العبد فإن ما كان من العبد فهو محدث وعند وجود ذلك المحدث المرجح التام يجب وجود فعل العبد وهذا الذي قالوه حق وهو حجة قاطعة على القدرية لكنهم نقضوه وتناقضوا فيه في فعل الرب تبارك وتعالى وادعوا هناك أن البديهية فرقت بين فعل القادر وبين الموجب بالذات فإن كان هذا الفرق صحيحاً بطلت حجتهم على المعتزلة ولم تبطل قول القدرية وإن كان باطلاً بطل قولهم في إحداث الله وفعله للعالم وهذا هو الباطل في نفس الأمر فإن القول بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام أمر معلوم بالفطرة الضرورية لا يمكن القدح فيه وهو عام لا تخصيص فيه فالفرق المذكور باطل وذلك يبطل قولهم بأن خلق العالم هو العالم وأنه حدث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث. ومن قال أن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات ليست أسباباً أو أن وجودها كعدمها وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي كاقتران الدليل بالمدلول فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز. قال بعض الفضلاء: تكلم قوم من الناس في إبطال الأسباب والقوى والطبائع فأضحكوا العقلاء على عقولهم. ثم أن هؤلاء يقولون لا ينبغي للإنسان أن يقول أنه شبع بالخبز وروي بالماء بل يقول شبعت عنده ورويت عنده فإن الله يخلق الشبع والري ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادة لا بها. وهذا خلاف الكتاب والسنة فإن الله تعالى يقول ) وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله " لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة " وقال صلى الله عليه وسلم " إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نورا " ومثل هذا كثير. ونظير هؤلاء الذي أبطلوا الأسباب المقدرة في خلق الله من أبطل الأسباب المشروعة في أمر الله كالذين يظنون أن ما يحصل بالدعاء والأعمال الصالحة وغير ذلك من الخيرات إن كان مقدراً حصل بدون ذلك وإن لم يكن مقدوراً لم يحصل بذلك. وهؤلاء كالذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب فال " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". وفي السنن أنه قيل: يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً فقال " هي من قدر الله " ولهذا قال من قال من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسباباً تغبير في وجوه العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سبباً لهذا فإذا قال القائل إن كان هذا مقدوراً حصل بدون السبب والألم يحصل جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدوراً بدون السبب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " وقال صلى الله عليه وسلم " اعلموا فكل ميسر لما خلق له " أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بين وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا يدخل الجنة بالعمل الذي يعمله ويختم له به وهذا يدخل النار بالعمل الذي يعمله ويختم له به كما قال صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالخواتيم " وذلك لأن جميع الحسنات تحبط بالردة وجميع السيئات تغفر بالتوبة ونظير ذلك من صام ثم أفطر قبل الغروب أو صلى وأحدث عمداً قبل كمال الصلاة ثم أبطل عمله. وبالجملة فالذي عليه سلف الأمة وأئمتها ما بعث الله به رسله وأنزل كتبه فيؤمنون بخلق الله وأمره بقدره وشرعه بحكمه الكوني وحكمه الديني وإرادته الكونية والدينية كما قال في الآية ) والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل فهم يحبونه أعظم مما يحب كل محب لمحبوبه كما قال تعالى ) فإن الله اتخذ إبراهيم خليلاً. واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه قال " إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا " وقال " لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله " يعني نفسه ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وأهل المعرفة أن الله نفسه يحب ويحب. وأنكرت الجهمية ومن تعبهم محبته. وأول من أنكر ذلك الجعد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه. وهذا أصل مسئلة إبراهيم الذي جعله الله إماماً للناس قال تعالى ) ومن قال أن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه فقوله متناقض فإن محبة التقرب إليه تبع لمحبته. فمن أحب الله نفسه أحب التقرب إليه ومن كان لا يحبه نفسه امتنع أن يحب التقرب إليه. وأما من كان لا يطيعه ولا يمتثل أمره إلا لأجل غرض آخر فهو في الحقيقة إنما يحب ذلك الغرض الذي عمل لأجله وقد جعل طاعة الله وسيلة إليه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخل الجنة ويجرنا من النار فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة " فأخبر أن النظر إليه أحب إليهم من كل ما يتنعمون فيه ومحبة النظر إليه تبع لمحبته فإنما أحبوا النظر إليه لمحبتهم إياه وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله وطمأنينة بذكره وتنعماً بمعرفته ولذة وسرواً بذكره ومناجاته. وذلك يقوى ويضعف ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق. فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره " حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " وكان صلى الله عليه وسلم يقول " ارحنا بالصلاة يا بلال " وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن عباده المؤمنين يحبوه وهو يحبهم سبحانه وحبهم له بحسب فعلهم ما يحبه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله تعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن فقد بين أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله. وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه وحب ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين فكان حبه للمؤمنين تبعاً لحب نفسه. فالمؤمنون وإن كانوا يحمدون ربهم ويثنون عليه فهم لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم " إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وفي الصحيح أنه قال " لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه " وقال له الأسود بن سريع: إني حمدت ربي فقال " إن ربك يحب الحمد " فهو يحب حمد العباد له وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له ويحب ثناءهم عليه وثناؤه على نفسه أعظم من ثنائهم عليه. وكذلك حبه لنفسه وتعظيمه لنفسه فهو سبحانه أعلم بنفسه من كل أحد وهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول الخلائق فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ) فإذا فرح بتوبة التائب وأحب من تقرب إليه بالنوافل ورضي عن السابقين الأولين لم يجز أن يقال: هو مفتقر في ذلك إلى غيره ولا مستكمل بسواه فإنه هو الذي خلق هؤلاء وهداهم وأعانهم حتى فعلوا ما يحبه ويرضاه ويفرح به. فهذه المحبوبات لم تحصل إلا بقدرته ومشيئته وخلقه فله الملك لا شريك له وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. فهذا ونحوه يحتج به الجمهور الذين يثبتون لأفعاله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها ويفعل لأجلها. قالوا: وقول القائل إن هذا يقتضي أنه مستكمل بغيره فيكون ناقصاً قبل ذلك فعنه أجوبة. أحدها أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات فما كان جواباً في المفعولات كان جواباً عن هذا ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلاً إلا مستكملاً بفعله. الثاني أنهم قالوا: كما له أن يكون لا يزال قادراً على الفعل بحكمة فلو قدر كونه غير قادر على ذلك لكان ناقصاً. الثالث قول القائل إنه مستكمل بغيره باطل فإن ذلك إنما حصل بقدرته ومشيئته لا شريك له في ذلك فلم يكن في ذلك محتاجاً إلى غيره وإذا قيل كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره كان كما لو قيل كمل بصفاته أو بذاته. الرابع قول القائل كان قبل ذلك ناقصاً إن أراد به عدم ما تجدد فلا نسلم إن عدمه قبل ذلك الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه يكون نقصاً وإن أراد بكونه ناقصاً معنى غير ذلك فهو ممنوع بل يقال عدم الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه من الكمال كما أن وجوده في وقت اقتضاء الحكمة وجوده كمال. فليس عدم كل شيء نقصاً بل عدم ما يصلح وجوده هو النقص كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص فتبين أن وجود هذه الأمور حين اقتضت الحكمة عدمها هو النقص لا أن عدمها هو النقص. ولهذا كان الرب تعالى موصوفاً بالصفات الثبوتية المتضمنة لكماله وموصوفاً بالصفات السلبية المستلزمة لكماله أيضاً. فكان عدم ما ينفي عنه هو من الكمال كما أن وجود ما يستحق ثبوته من الكمال. وإذا عقل مثل هذا في الصفات فكذلك في الأفعال ونحوها وليس كل زيادة يقدرها الذهن من الكمال بل كثير من الزيادات تكون نقصاً في كمال المزيد كما يعقل مثل ذلك في كثير من الموجودات. والإنسان قد يكون وجود أشياء في وقت نقصاً وعيباً في حقه وفي وقت آخر كمالاً ومدحاً في حقه كما يكون في وقت مضرة له وفي وقت منفعة له. الخامس إنا إذا قدرنا من يقدر على إحداث الحوادث لحكمة ومن لا يقدر على ذلك كان معلوماً ببديهة العقل أن القادر على ذلك أكمل مع أن الحوادث لا يمكن وجودها إلا حوادث لا تكون قديمة وإذا كانت القدرة على ذلك أكمل وهذا المقدور لا يكون إلا حادثاً كان وجوده هو الكمال وعدمه قبل ذلك من تمام الكمال إذا عدم الممتنع الذي هو شرط في وجود الكمال. ثم الجمهور القائلون بهذا الأصل هنا ثلاث فرق )فرقة( تقول إرادته وحبه ورضاه ونحو هذا قديم ولم يزل راضياً عمن علم أنه يموت مؤمناً ولم يزل ساخطاً على من علم أنه يموت كافراً كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية وأهل الحديث والفقهاء والصوفية فهؤلاء لا يلزمهم التسلسل لأجل حلول الحوادث لكن يعارضهم الأكثرون الذين ينازعونهم في الحكمة المحبوبة كما ينازعمونهم في الإرادة فإنهم قالوا: إذا كانت الإرادة قديمة لم تزل ونسبتها إلى جميع الأزمنة والحوادث سواء فاختصاص زمان دون زمان بالحدوث ومفعول دون مفعول تخصيص بلا مخصص. قال أولئك: الإرادة من شأنها أن تخصص. قال لهم المعارضون: من شأنها جنس التخصيص. وأما تخصيص هذا المعين على هذا المعين فليس من لوازم الإرادة بل لا بد من سبب يوجب اختصاص أحدهما بالإرادة دون الآخر. والإنسان يجد من نفسه أنه يخصص بإرادته ولكنه يعلم أنه لا يريد هذا دون هذا إلا لسبب اقتضى التخصيص وإلا فلو تساوى ما يمكن إرادته من جميع الوجوه امتنع تخصيص الإرادة لواحد من ذلك دون أمثاله فإن هذا ترجيح بلا مرجح. ومتى جوز هذا انسد باب إثبات الصانع قالوا: ومن تدبر هذا وأمعن النظر فيه علمه حقيقة وإنما ينازع فيه من يقلد قولاً قاله غيره من غير اعتبار لحقيقته. وهكذا يقول الجمهور إذا كان الله تعالى راضياً في أزله ومحباً وفرحاً بما يحدثه قبل أن يحدثه فإذا أحدثه هل حصل بإحداثه حكمة يحبها ويرضاها ويفرح بها أو لم يحصل إلا ما كان في الأزل فإن قلتم لم يحصل إلا ما كان في الأزل. قيل ذاك كان حاصلاً بدون ما أحدثه من المفعولات فامتنع أن تكون المفعولات فعلت لكي يحصل ذاك فقولكم كما تضمن أن المفعولات تحدث بلا سبب يحدثه الله تتضمن أنه يفعلها بلا حكمة يحبها ويرضاها قالوا: فقولكم يتضمن نفي إرادته المقارنة ومحبته وحكمته التي لا يحصل الفعل إلا بها. والفرقة الثاني قالوا إن الحكمة المتعلقة به تحصل بمشيئته وقدرته كما يحصل الفعل بمشيئته وقدرته كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية وأهل الحديث والصوفية قالوا وإن قام ذلك بذاته فهو كقيام سائر ما أخبر به من صفاته وأفعاله بذاته. والمعتزلة تنفي قيام الصفات والأفعال به وتسمى الصفات أعراضاً والأفعال حوادث ويقولون لا تقوم به الأعراض ولا الحوادث فيتوهم من لم يعرف حقيقة قولهم أنهم ينزهون الله تعالى عن النقائص والعيوب والآفات. ولا ريب أن الله يحب تنزيهه عن كل عيب ونقص وآفة فإنه القدوس السلام الصمد السيد الكامل في كل نعت من نعوت الكمال كمالاً يدرك الخلق حقيقته منزه عن كل نقص تنزيهاً لا يدرك الخلق كماله. وكل كمال ثبت لموجود من غير استلزام نقص فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وأولى ببراءته منه. روينا من طريق غير واحد كعثمان بن سعيد الدارمي وأبي جعفر الطبري والبيهقي وغيرهم في تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى )الصمد( قال: السيد الذي قد كمل في سؤدده والشريف الذي قد كمل في شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته والحكيم الذي قد كمل في حكمته والغني الذي قد كمل في غناه والجبار الذي قد كمل في جبروته والعالم الذي قد كمل في علمه والحليم الذي قد كمل في حلمه وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله عز وجل هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفؤ ولا كمثله شيء سبحانه الواحد القهار. وهذا التفسير ثابت عن عبد الله بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي لكن يقال أنه لم يسمع التفسير من ابن عباس ولكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: الصمد الكامل في صفاته وأفعاله. وثبت عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه قال: الصمد السيد الذي انتهى سؤدده. وهذه الأقوال وما أشبهها لا تنافي ما قاله كثير من السلف كسعيد بن المسيب وابن جبير ومجاهد والحسن والسدي والضحاك وغيرهم من أن الصمد هو الذي لا جوف له وهذا منقول عن ابن مسعود وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه موقوفاً أو مرفوعاً فإن كلا القولين حق كما بسط الكلام عليه. ولفظ الأعراض في اللغة قد يفهم منه ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها وكذلك لفظ الحوادث والمحدثات قد يفهم ما يحدثه الإنسان من الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة أو ما يحدث للإنسان من الأمراض ونحو ذلك. والله تعالى يجب تنزيهه عما هو فوق ذلك مما فيه نوع نقص فكيف تنزيهه عن هذه الأمور ولكن لم يكن مقصود المعتزلة بقولهم هو منزه عن الأعراض والحوادث إلا نفي صفاته وأفعاله فعندهم لا يقوم به علم ولا قدرة ولا مشيئة ولا رحمة ولا حب ولا رضى ولا فرح ولا خلق ولا إحسان ولا عدل ولا إتيان ولا مجيء ولا نزول ولا استواء ولا غير ذلك من صفاته وأفعاله. وجماهير المسلمين يخالفونهم في ذلك ومن الطوائف من ينازعهم في الصفات دون الأفعال ومنهم من ينازعهم في بعض الصفات دون بعض ومن الناس من ينازعهم في العلم القديم ويقول إن فعله قديم وإن كان المفعول محدثاً كما يقول في نظير من يقوله في الإرادة. وبسط هذه الأقوال وذكر قائليها وأدلتهم مذكورة في غير هذا الموضع. والمقصود هنا التنبيه على مجامع أجوبة الناس عن السؤال المذكور. وهذا الفريق الثاني إذا قال لهم الناس إذا أثبتم حكمة حدثت بعد أن لم تكن لزمكم التسلسل قالوا: القول في حدوث الحكمة كالقول في سائر ما أحدثه من المفعولات ونحن نخاطب من يسلم لنا أنه إذا أحدث المحدثات بعد أن لم تكن فإذا قلنا إنه أحدثها بحكمة حادثة لم يكن له أن يقول هذا يستلزم التسلسل فإذا قلنا إنه أحدثنا بحكمة حادثة لم يكن له أن يقول هذا يستلزم التسلسل بل نقول له: القول في حدوث الحكمة كالقول في حدوث المفعول الذي ترتبت عليه الحكمة ما كان جوابك عن هذا كان جوابنا عن هذا. فلما خصم الفريق الثاني الفريق الأول قال لهم الفريق الثالث من أئمة الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام: هذه حجة جدلية إلزامية ولم تشفوا الغليل بهذا الجواب وليس معكم من الأدلة الشرعية ولا العقلية ما ينفى مثل هذا التسلسل بل التسلسل نوعان والدور نوعان أحدهما التسلسل في العلل والمعلولات فهذا ممتنع وفاقاً. والثاني التسلسل في الشروط والآثار فهذا في جوازه قولان معروفان للمسلمين وغيرهم. وطوائف من أهل الكلام والحديث والفلسفة يجوزون هذا ومن هؤلاء السلف والأئمة الذين يقولون لم يزل الله متكلماً إذا شاء وأنه لم يزل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. وبين هؤلاء أن ما استدل به منازعوهم على نفي التسلسل في الآثار وامتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي أدلة ضعيفة كدليل المطابقة بين الجملتين مع زيادة أحدهما وكزيادة الشفع والوتر ونحو ذلك من الأدلة التي بين هؤلاء فسادها ونقضوها عليهم بالحوادث في المستقبل وبعقود الأعداد وبمعلومات الله مع مقدوراته وغير ذلك مما قد بسط في موضعه. والدور نوعان: فالدور القبلي السبقي ممتنع وأما الدور المعي الاقتراني وهو أن لا يكون هذا إلا مع هذا فهذا الدور في الشروط وما أشبهها من المتضايقات والمتلازمات ومثل هذا جائز. فهذه مجامع أجوبة الناس عن هذا السؤال. وهي عدة أقوال )الأول( قول من لا يعلل لا أفعاله ولا أحكامه )والثاني( قول من يعلل ذلك بأمور مباينة له منفصلة عنه من جملة مفعولاتها )والثالث( قول من يعلل ذلك بأمور قائمة به متعلقة بقدرته ومشيئته لكن يقول جنسها حادث )والخامس( قول من يعلل ذلك بأمور متعلقة بمشيئته وقدرته. فإن كان الفعل المفضي للحكمة حادث النوع كانت الحكمة كذلك وإن قدر أنه قام به كلام أو فعل متعلق بمشيئته وأنه لم يزل كذلك كانت الحكمة كذلك فيكون النوع قديماً وإن كانت آحاده حادثة. ويمكن الجواب عن السؤال بتقسيم حاصر بأن يقال: لا ريب أن الله عز وجل يحدث مفعولات لم تكن فإما أن تكون الأفعال المحدثة يجب أن يكون لها ابتداء ويجوز أن تكون غير متناهية في الابتداء كما هي غير متناهية في الانتهاء فإن وجب أن يكون لها ابتداء أمكن حدوث الحوادث بدون تسلسلها فإذا قال القائل لو فعل لعلة محدثة لكان القول في حدوث تلك العلة كالقول في حدوث معلولها ويلزم التسلسل. كان جوابه على هذا التقدير أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء وإذا فعل الفعل لحكمة محدثة كان الفعل وحكمته محدثين ولا يجب أن يكون للعلة المحدثة علة محدثة إلا إذا حاز أن لا يكون للحوادث ابتداء فأما إذا جاز أن يكون لها ابتداء بطل هذا السؤال فكيف إذا وجب أن يكون لها ابتداء وإن قيل يجوز أن تكون الحوادث غير متناهية في الابتداء كما أنها غير متناهية في الانتهاء عند المسلمين وسائر أهل الحق ولم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع الذين يقولون بفناء الجنة والنار كما يقوله الجهم بن صفوان أو بفناء حركات أهل الجنة كما يقوله أبو الهذيل فإن هذين أوجبا أن يكون لجنس الحوادث انتهاء كما يجوز أن يكون لها عندهم ابتداء وأكثر الذين وافقوهم على وجوب الابتداء خالفوهم في الانتهاء وقالوا لها ابتداء وليس لها انتهاء. والأقوال الثلاثة معروفة في طوائف المسلمين. والمقصود هنا أن الجواب يحصل على التقديرين فمن جوز أن يكون لها نهاية في الابتداء جوز تسلسل الحوادث وقال هذا تسلسل في الآثار والشروط لا تسلسل في العلل والمؤثرات والممتنع إنما هو الثاني دون الأول وقال أنه لا يقوم دليل على امتناع الثاني كما يقول ذلك طوائف من متقدمي أهل الكلام ومتأخريهم. ومن أوجب أن يكون لها ابتداء. قال في حدوث العلة ما يقوله في حدوث المفعول إذ لا فرق بينهما في هذا المعنى. ومن الأجوبة الحاصرة أن يقال: خلق الله إما أن يجوز تعليله أو لا إن لم يجز تعليله كان هذا هو التقرير الأول. وعلى هذا التقرير فلا يسمى هذا عبثاً وإذا سماه المسمي عبثاً لم تكن تسميته عبثاً قدحاً فيما تحقق فإنا نتكلم على تقدير امتناع التعليل وإذا كان التعليل ممتنعاً واجب القول به ولو سماه المسمي بأي شيء سماه وإن جاز تعليله فلا يخلو إما أن يجوز تعليله بعلة حادثة وإما أن لا يجوز فإن قيل لا يجوز ذلك لزم كون العلة قديمة وامتنع على هذا التقدير قدم المعلول. فإنا نتكلم على تقدير جواز تعليل المفعول الحادث بعلة قديمة وإن قيل يجوز تعليله بعلة حادثة أمكن القول بذلك. ثم إما أن يقال: يجوز تعليل الحوادث بعلة متناهية للفاعل لئلا يلزم أن يقوم به شيء حادث يجب أن يقوم به لحكمة وإن كانت مقدورة مرادة له فإن قيل بالأول لزم كون العلة الحادثة منفصلة عنه ولزم على هذا كون الفاعل يحدث الحوادث بعد أن لم تكن حادثة بغيره من غير حدوث سبب يوجب أول الحوادث ولا قيام حادث بالمحدث وإن قيل بل لا يجوز أن يحدث الحوادث لغير معنى يعود إليه بل يجب أن يقوم به ما هو السبب والحكمة في حدوث الحوادث فإنه يجب القول بذلك. ثم إما أن يقال هذا يستلزم التسلسل أو لا يستلزمه فإن قيل لا يستلزمه لم يكن التسلسل على هذا التقدير محذوراً لأن التقدير أنه يجوز تعليل أفعاله بعلة حادثة وإن ذلك يستلزم التسلسل. ومن المعلوم أن الأمر الجائز لا يستلزم ممتنعاً فإنه لو استلزم ممتنعاً لكان ممتنعاً بغيره وإن كان جائزاً بنفسه والتقدير أنه جائز جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه. وما كان جائزاً جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه لم يلزمه ما يمتنع ثبوته فيكون التسلسل على هذا التقدير غير ممتنع. فهذا جواب عن السؤال من غير التزام قول بعينه بل نبين أنه ليس في نفس الأمر محذور ولكن السؤال مبني على ست مقدمات: لزوم العبث وإنه منتف ولزوم قدم المفعول وأنه منتف ولزوم التسلسل وأنه منتف. فصاحب القول الأول يقول: لا أسلم أنه يلزم العبث وصاحب القول الثاني يقول: لا أسلم أنه يلزم قدم المفعول وصاحب القول الثالث يقول: لا أسلم أنه يلزم التسلسل أو يقول لا أسلم أن التسلسل في الآثار ممتنع. فهذه أربع ممانعات لا بد منها. ويمتنع أن تكون كلها فاسدة بل لا بد من صحة واحد منها وأيها صح اندفع السؤال به وهو المقصود. وذلك لأن القسمة العقلية تحصر من الأقسام فيما ذكر فمن توجه عنده أحد الأقسام قال به ونحن قد بسطنا الكلام على أصول هذه المسئلة ولوازمها وأقوال الناس فيها في غير هذا الموضع. والمقصود هنا الذب عن مجموع المسلمين فإن هذا السؤال مما أورده على الناس القائلون بقدم العالم وقد ذكرنا عنه أجوبة متعددة فيما كتبناه في جواب شبهة القائلين بقدم العالم. ومن جملة أجوبتهم أن يقال: هذا السؤال ليس مختصاً بحدوث العالم بل هو وارد في كل ما يحدث في الوجود من الحوادث والحدوث مشهود محسوس متفق عليه بين العقلاء. فكل ما يورده على حدوث خلق السماوات والأرض يورد عليه نظيره في الحوادث المشهودة. وقد نبهنا على جنس ما تحتج به كل طائفة من الطوائف في هذا المقام لكن استقصاء الكلام في ذلك لا تسعه هذه الأوراق ومن فهم ما كتب انفتح له الكلام في هذا الباب وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل فإن الكلام فيها بالتدريج مقاماً بعد مقام هو الذي يحص به المقصود وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها والجواب عما يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها. فلهذا يجب أن يكون لخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر كل قول ومعارضة الآخر له حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والله سبحانه أعلم.
|